النياحة العربية على صدام حباً بصدام أم كرهاً بالعراق الجديد ؟!


       فيما يلي نص المقالة النياحة العربية على صدام حباً بصدام أم كرهاً بالعراق الجديد ؟! قال لي مسؤول عربي كبير قبل ثلاثة ايام من تنفيذ الحكم بأعدام صدام ، وهو ايضاً يعد من كبار فقهاء القانون ورجال القضاء في بلاده : إن جرائم صدام أوضح وأكبر من أن يحاكم عليها كل هذه المحاكمة الطويلة …. لقد منحتموه بهذه المحاكمة شرفاً لا يستحقه ” كنتو تعدموه بلا محاكمة بلا زفت “.   لقد تفاءلت خيرا وأنا استمع الى رأي هذا المسؤول العربي في محاكمة صدام وفي طريقة اعدامه ، واستبشرت في نفسي بأن معظم المسؤولين والحكام العرب ـ إن لم يكن جميعهم ـ يدركون ما حلّ بالعراق من نكبات ، وما أرتكب في حقه من جرائم بشعة على يدي صدام ونظام حكمه ، وأنهم يدركون ايضاً ما ألحقه صدام بالعرب من ذل ، وارتكبه في حقهم من جرائم وحشية حين غزاهم في عقر دارهم – بعد ما انتهى من غزو ايران – وشرّد شعباً عربياً كاملاً من أرضه قرابة عام واحد ، وفعل به ما لم يفعله التتار والمغول في غابر التاريخ من القتل والدمار والسلب والنهب ، وما سبّبه كل ذلك من زيادة في تفريق كلمة العرب ، وإضعافٍ لقضية فلسطين ، وجرّ لجيوش الدول الكبرى الى المنطقة لحمايتها من عدوانه . وهل يمكن لحكام العرب ـ وبخاصة حكام الخليج ـ أن ينسون كيف كان صدام يتوعّدهم و يهدّدهم باقتحام غرف نومهم لقتلهم ـ كما قال الرئيس السابق السادات في خطاب تلفزيوني في اوائل الثمانينيات ـ  إذا لم يسايروه في طغيانه ؟!   وتفاءلت في نفسي أيضاً بأن الحكم بإعدام صدام الصادر من المحكمة الجنائية المختصة سيلقى ، في الحد الادنى ، بعد تنفيذه تفهماً من اخواننا العرب وعدم معارضة ، ولا أقول ترحيبا وتأييداً منهم . ولكن هذا التفاؤل سرعان ما تبين انه كان مغرقاً في الوهم . فما أن اعلنت الحكومة العراقية عن اعدام صدام ، وبثّت صوره وحبل المشنقة محيط برقبته ، حتى شرعت الماكنة الاعلامية العربية في نصب النياحة على صدام ، مشكّكة في شرعية المحكمة وقانونية الاجراءات التي اتبعت في تنفيذ اعدامه ، ومقدمة للطاغية المجرم في صورة البطل الشهيد الذي انتهكت بحقه مباديء حقوق الانسان ، ومشيدة ( بانجازاته! ) التاريخية ، وما أسداه للشعب العراقي من ( خدمات !).    وقد حشدت من أجل ذلك ، اضافة الى اعلامييها ومأجوريها ، زمرة من المعارضين للنظام السياسي الجديد في العراق ، بما فيهم بعض الفارين من وجه العدالة والمتهمين بقضايا الفساد.   بل ان الامر تعدى ـ للأسف الشديد ـ الساسة والاعلاميين الى خطباء المساجد ورجال الدين ، فخطب بعضهم ممن يعد نفسه قطباً من اقطاب الصحوة الاسلامية وعلماً من اعلام الفكر الاسلامي الحديث ـ مُشيداً بايمان صدام ونطقه بالشهادتين خلال اعدامه ، وتأبطّّّّه للقران الكريم اثناء محاكمته ، ومعتذرا عن بعض اخطائه بانه قد تاب وغفر الله له! والانكى والاشد إيلاماً وجرحاً للحياء والضمير في كل ماتقدم عدّه اعدام الطاغية عملاً موجها ضد السنة انتقاماً منهم للشيعة ، مهيباً بسنة العرب ان يهبوا للدفاع عن سنة العراق وانقاذهم من شيعته وشيعه ايران .   كل ذلك يدفعنا كعراقيين لإعادة حساباتنا مع إخواننا العرب ، ويجعلنا من اجل ذلك وفي سياقه نمعن التفكير في تحليل هذه الظاهرة الغريبة وتشخيص بواعثها الحقيقية ، متعالين عن ردّات الفعل العاطفية والغضب السريع .   وبداية نسأل : هل كان تباكيهم على صدام وتحاملهم على الحكومة العراقية حباً بمعاوية ام كرهاً بعلي ، كما يقول المثل ؟! هل كان حباً بصدام ، واعتقاداً بمظلمويته ، وتقديراً لدوره ومآثره في العراق و العالم العربي ؟! او كرهاً بالعراق الجديد ، وتجافياً عن توجهات نظامه السياسي وأسسه التي تضمنها دستوره الدائم ؟   الجواب فيما اعتقد هو الثاني وليس الاول ، ولكن لماذا يكره العرب العراق الجديد ، او الدولة العراقية الجديدة ونظامها السياسي ؟   إنهم يكرهونها لثلاثة اسبابْ :   الاول : إنّ العراق الجديد تحرّر من النطاق الشوفيني القومي الذي ضربته حوله الانظمة والاحزاب القومية التي تعاقبت على حكمه ، واصبح مواطنوه من جميع المناطق و القوميات والاديان والطوائف متساوين في درجة مواطنتهم ليس فيهم مواطنون درجة اولى ودرجة ثانية وثالثة ، ولاشهادات جنسية لمواطنين فئة (أ)  وشهادات جنسية اخرى لرعايا فئة (ب) و فئه (ج) .انهم جميعا عراقيون متساوون في الحقوق والواجبات ، وامام القانون ، ومتكافئون في الفرص.    صحيح إنّ العرب اكثرية الشعب العراقي ومن حق هذه الاكثرية ان تُمثَّل في السلطة السياسية حسب وزنها وحجمها الديموغرافي ، ولكن ذلك شيء ، وما يريده العرب لعرب العراق شيء اخر. انهم يريدون ان تكون السيادة والولاء والثقافة في العراق للعروبة والعرب خاصة دون غيرهم من الكرد والتركمان، وسائر ما يزخر به العراق من قوميات آخرى يجب ان تبقى في نظرهم دائرة في فلك العرب والعروبيين ، وتعيش على هامش سلطتهم وثقافتهم ، ومن فتات أملاكهم .   ثانياً : ان العراق الجديد قد نبذ الدكتاتورية وراء ظهره ، واختار الديمقراطية نظاماً سياسياً لحكمه وتداول السلطة فيه ، وقد جرت فيه منذ تحريره من طغيان صدام وحتى الان ثلاث ممارسات ديمقراطية أدهشت العالم في شفافيتها ونزاهتها ، واتيح فيها للشعب العراقي التعبير عن كامل إرادته السياسيه ، وهي انتخاب الجمعية الوطنية ، والاستفتاء على الدستور الدائم ، وانتخابات مجلس النواب .   وهذا ما لا يريده العرب ولا يحبونه ، فهم قد ألفوا الدكتاتورية وادمنوها ؛ لانها وسيلتهم الناجعة للاحتفاظ بالسلطة ، وليس في العالم العربي من اقصاه الى ادناه – عدا لبنان – اي مؤسسة ديمقراطية حقيقية جرى من خلالها تداول سلمي للسطة وانتقالها من حاكم عربي الى حاكم عربي اخر .   واذا كان هذا هو حال العرب فكيف ننتظر منهم ان يقبلوا بأن تحل الديمقراطية قريباً من دارهم … أليس من حقهم ان يعدوها وباءً يجب الوقاية منه ، وعدوىً يتعوذون من انتقالها اليهم ؟   ثالثاً : ان العراق الجديد ـ وهذا من نتائج واثار سمة الديمقراطية الحقيقية التي يتسم بها نظامه السياسي الجديد ـ  قد بني على اساس مشاركة جميع ابنائه من مختلف القوميات والطوائف في السلطة ، بمعنى اتاحة الفرصة امام جميع القوى السياسية الممثلّة لمختلف شرائح الشعب ومكوناته الاجتماعية والمذهبية للوصول الى السلطة عن طريق التنافس الديمقراطي ، بحيث لا تتركز هذه السلطة ومؤسساتها الحاكمة بيد مكّون واحد او طائفة واحدة .   وهذا ما لم يألفه العرب في العراق من قبلُ منذ عهد الامويين وحتى عهد صدام والبعثيين .فقد بقيت السلطة حكراً على طائفة السنة العرب رغم كونهم اقلية في العراق ، وبقي الشيعة ، وهم أكثرية العراقيين ، وكذلك الكرد والتركمان وغيرهم من ابناء العراق الاصلاء خارج السلطة او على هامشها ، وهكذا يجب ان يبقوا في نظرهم . ولذلك فهم لا يريدون اي نظام سياسي جديد يقلب هذه المعادلة الجائرة ويعيدها الى الوضع السليم المقبول والمعقول .   هذه هي مجمل الدوافع والاسباب الحقيقية ـ فيما اعتقد ـ التي جعلت العرب يتذرّعون بقضية اعدام صدام لمحاربة العراق الجديد وتشويه صورته واثارة الفتنة بين سنته وشيعته ، وساقتهم الى نصب تلك النياحة الهستيرية في وسائل اعلامهم المختلفه للتباكي على صدام …صدام الذي اكتووا بنار طغيانه وجبروته ، وأذاقهم حرَّ الحديد ومرارة الذل .. صدام الذي لاتنقصهم المعرفه ـ على اية حال ـ بحقيقة جرائمه وجرائره على العراق وعلى العرب على حد سواء .   إن القضية في جوهرها ليست اعدام حاكم عربي بطريقة شرعية او غير شرعية ، وانما هي اعدام نظام سياسي كان يمثله ذلك الحاكم ، وقيام نظام سياسي جديد على اسس جديدة مختلفة لا تروقهم ، والا فقد قُُُُتل حكام في العراق من قبل صدام بطرق هي ابعد ما تكون عن الشرعية ، وتم سحلهم والتمثيل بجثثهم في الشوارع ، ولم يرفع العرب عقيرتهم بلومٍ او عتاب على ذلك ، وانما باركوا الحاكم الجديد وابرقوا له مهنئين !!! فلماذا هذه المرة ؟!   وثمة سبب رابع يكمن وراء ظاهرة النياحة العربية على صدام يتعلق مباشرة بأشخاص الحكام العرب ، وهو : رفضهم المطلق لفكرة المحاكمة القائمة على اتباع الاصول والاجراءات القانونية في محاسبة الحاكم وازاحته عن السلطة . فالحاكم في نظرهم مصون غير مسؤول ، نعم يمكن ان يقتل بالاغتيال او بمحاكمة صورية عقب انقلاب عسكري ضده ؛لأن ذلك امر قليل الحدوث – في نظرهم – ما دام الحاكم متحصّن بحمايته العسكرية وبأجهزته الامنية القمعية . وكأني بالحكام العرب حين راؤا صدام وهو يحاكم لأكثر من عام واقفاً كأي مجرم بين يدي القضاء وخلف قضبان قفص الاتهام ، وأخيراً وهو معلق بحبل الاعدام – رأوا فيه صورة من انفسهم ورمزاً لاشخاصهم ، فأدركهم الفزع من ملاقاة نفس المصير .                         الشيخ خالد  العطية   النائب الاول لرئيس مجلس النواب العراقي   بغداد 10/1/2007   19/ذي الحجه /1427    

أرسل هذا المقال لصديق  أرسل هذا المقال لصديق    صفحة للطباعة  صفحة للطباعة