كلمة دولة رئيس مجلس النواب حول الندوة التعريفية الخاصة باستقبال التصاميم المعمارية للوفود المشاركة لمبنى مجلس النواب

من الثابت عندنا ان بناء شاخص اعماري جديد في اية مدينة من مدن العراق العظيم لاتعني اشغال حيز ما ولا تأدية وظيفة ما قدر ماتعني اضافة درة الى القلادة التاريخية الحضارية العميقة التي تزين جيد بغداد وتميزها بين سائر مدائن الارض، ومن هذا الهدف، وبغية ايجاد فضاء واسع لممارسة الوظائف التشريعية لمجلس نواب شعب العراق يتساوق مع معمارها الديمقراطي الجديد وتوقها الى العودة لممارسة دورها الانساني الفاعل والمتفاعل في عالم اليوم.


وفي هذا المقام فاننا نتطلع الى ان يكون مقر مجلس النواب الجديد صرحا بغداديا جديدا تتواشج فيه الحداثة المعاصرة مع الاصالة المعمارية العربية والاسلامية والعراقية بمكوناتها الاجتماعية العربية والكردية والتركمانية والمسيحية والمجموعات الثقافية والاجتماعية الاخرى, تواشجا متناغما, لا الاصالة فيه تلغي الحداثة المطلوبة ولا الحداثة تلغي الاصالة بكل معانيها الروحية ومستحثاتها الاعتبارية الكبيرة.

ففي أي شعب تاريخي، يسكن وطنا يمتد عمره الى مايربو على الستة الاف عام من الحضارة والابتكار والريادة لا يمكن في عهد التشييد أن يتشيّد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج فإن هذه الفكرة في حد ذاتها عقبة في طريق أي بناء حضاري، فهي تجمع بين الانبهار بالآخر و الضعف في تقييم الذات والخلل في فهم مقومات الحضارة. في المقابل، نجد أن فاصلة كبيرة تفصل عالمنا العربي والإسلامي عن الحضارات المتقدمة المعاصرة في مجال البناء المادي، جعلت البعض يفتقد بوصلته الوطنية الحقيقية في الاعمار ويخضع عن قصد او بدونه لحالة من التأثر و الانبهار بالحضارة الغربية والمناداة بتبني خطواتها من أجل السير في طريق التحضر كأنه لا يوجد طريق سواه.

وهذا هو الخواء بعينه، الخواء الذي يجعل الانبهار بالزخرف ابداعا وابتكارا واصالة ! ان هذا الانبهار الجارف الذي لا يُلتفَت فيه إلى النفس بقدر ما ُيلتفت فيه إلى الآخر، يضعف قدرة صاحبه في اكتشاف ذاته وتقييمها وفي اكتشاف مجتمعه وتقييمه ، ولذلك إننا لا نفقه رسوخ جذور حضارة بداخلنا تفوقت بكثير على هذه الحضارة العرجاء التي تغري البعض بالانجراف نحوها، ومن هذا يأتي رفضنا طمس كل القدرات المتوفرة لدينا و التي تميزنا واستيراد أخرى ليست على مقاسنا مما يضعنا في منزلة التبّع ويربأ بنا عن مراكز الريادة. لذلك ـ ايتها الاخوات وايها الاخوة ـ علينا عندما نفكر في استلهام النموذج الغربي كطريق حتمي للبناء الحضاري، ان لا ننكر ذواتنا، وان نحسن الاستماع إلى أصواتنا الداخلية التي تصرخ قائلة، إن الحضارة هنا .. فقط نقب عنها وضع لنفسك من خلال نفسك خطة وطريقا.. ! ان الحضارة هي حالة من الارتقاء في سلم التاريخ الإنساني ، من خلال مجموع النظم المادية و القيم المعنوية التي يسير وفقها أي مجتمع ويتميز بها عن غيره من المجتمعات. فهي ليست شيئا مستوردا، و لكنها رقي ينطلق من مقومات المجتمع و خصوصياته الذاتية. وبالتالي فإن محاولة الاستلهام الحضاري هي فكرة خارج سياق مفهوم البناء الحضاري طالما أنها دخلت دائرة التقليد وفقدان الخصوصية الذاتية. ولهذا أعتقد أن من يتحدث عن هذا الاستلهام يعاني من خلل في فهم الحضارة من أساسه، اذ يحصرها في مفهوم ضيق ينم عن انبهار بالبناء المادي السطحي دونما إدراك لماهية الحضارة وعمقها الحقيقي.. إن الحضارة قبل كل شيء هوية، فهل يمكن استلهام الهوية؟ ولذا، فإننا في حاجة ماسة الى جهود وثابة تنادي بضرورة العودة الى المنابع الأصيلة التي استُلهمت منها ملامح تراثنا المعماري ، إبان عصور تألق حضارتنا العراقية, وهي منابع ثرّة فيّاضة يقف على قمتها الموروثات الحضارية السومرية والاشورية والبابلية والاكدية والكلدانية منذ فجر السلالات والممزوجة مع الاصول الثقافية للتكوينات الاجتماعية المختلفة التي عاشت على ارض العراق، بما قدمه من رؤية صادقة لتنظيم الهيكل العام والخاص للحياة العراقية. ولذا ينبغي أن يكون المنطلق الحافز للتجديد الحضاري في هذا المنحى هو موقع التراث المعماري العراقي والإسلامي بين قطبي التحدي والاستجابة لأن هذه الحضارات تواجه تحديات شرسة في عصرها الراهن. وهكذا نستطيع أن نقول ان تراثنا الذي استجاب لكل التحديات المعمارية السابقة، لهو قادر على ان يستجيب لتحديات العمران المعاصر، وما علينا إذن إلا ان نبلور اللمسات الواقعية لملامح عمران المستقبل ، حتى تكون عنواناً بواحاً لحضارة عراقية عربية إسلامية معاصرة، وينبغي علينا الشروع فعلاً لا قولاً البدء في رسم ملامحها وقسمات وجودها ومن ثم الخروج بها الى دنيا الواقع في عالم اليوم والغد المنظور. وأخيراً وليس آخراً، فإن تراثنا المعماري علامة بارزة على طريق العودة الى منابع حضارتنا، وهو ايضاً حافز للنهوض بأمتنا على أسس متينة لا على أسس خاوية، وصدق الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، عندما قال: ((لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هـَذهِ الأُمَّةِ إلَّا بِمَا صَلُحَ بِهِ أوَّلُها)) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته